﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 مرحلة الطفولة 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 17023

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي لا يحصي مدحتَه القائلون، ولا يحيط بآلائه الذاكرون، ولا يؤدي حقه المجتهدون. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأئمة، مصابيح الدجى وذوي النهى، وكهف الورى. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

       عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله، الذي >وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ< النحل 78.

          بعد الانتهاء من الكلام عن عوالم الذر والطين والأصلاب والأرحام، يأتي الكلام إلى عالم الدنيا، ونقسمه إلى مراحل ثلاث: الطفولة، والشباب، والشيخوخة. واليوم نتكلم عن مرحلة الطفولة لنبحث في فتراتها، وأهميتها، وكيفية التعامل معها.

          الطفولة، أهم مراحلِ الدنيا الثلاث على الإطلاق، إذ إنها المرحلة التي يكتسب فيها الإنسان ملكاتِه الأخلاقيةَ من خلال التربية وتأثير المحيط. ونظرا لأهمية هذه المرحلةِ اعتنى الإسلام بها عناية خاصة؛ ورسم لها خطة من فترات ثلاث؛ فعن الصادق (عليه السلام) قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فإنه مما لا خير فيه".

          الفترة الأولى: أن ندعه سبعا لينشط جسمه، وتنمو بواكيرُ مداركه، فلا نبالغ في توجيه أطفالنا منذ نعومة أظفارهم، ونتصرف معهم على أنهم عاقلون ومدركون، فتكون النتيجة أطفالا مهزومين معقدين.

الفترة الثانية: أن نؤدبه سبعا لنوجه همّـته لتعلم الآداب، وندرّبه على إقامة الفرائض، ونحثه على الاعتماد على نفسه، فإنَّ أثبتَ الأفكار وأبقاها ما كان في الصغر، فإن "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، فلا نهمل رعايتهم، ونعطِيهم مطلق الحرية، فينحرفوا.

الفترة الثالثة: أن نَلزَمَه أي نصادقه سبعا؛ لأنه في هذه المرحلة يميل إلى الاعتماد على نفسه، والاعتداد برأيه، فنحرص على إشعاره بالاحترام، وتبادل الأحاديث والنصائح معه.

          هكذا، وبعد أن وضعنا ملخصًا عن فترات مرحلة الطفولة، نشرع في بيان أهميتها، وكيفية التعامل معها.

كثيرة هي الروايات التي كشفت عن مدى تأثير فترة الطفولة في النفس، منها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانِه، وينصرانِه، ويمجِّسانِه". يعني أن الوالدين مسؤولان عن صناعة البنية العقائدية لولدهما، التي فيها دخولهم الجنة أو النار.

وقال إمامنا زين العابدين (عليه السلام): "وأما حق ولدك: فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عمّا ولَّيته به من حسن الأدب، والدلالة على ربه (عز وجل)، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عملَ من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه".

يعني مضافا إلى ما ذكره النبي الكريم من تأثير الأبوين العقائدي على ولدهما، فهما مسؤولان -وبطريق أولى- عن خصاله الأخلاقية، بتحلّيه بحسنها، وتخلّيه عن قبيحها. فماذا بقي للولد بعدما ملك الأبوان التأثير العقائدي والأخلاقي عليه؟ من هنا قال تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ< التحريم 6. يعني كما يحرص الأبوان على اتقاء نار جهنم، عليهم أن يقوها أولادهم بحسن تربيتهم، وحثهم على المكارم، وزجرهم عن الرذائل. فهذا نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر إلى بعض الأطفال ويقول: "ويل لأولاد آخر الزمان من آبائهم! فقيل: يا رسول الله! مِن آبائهم المشركين؟ فقال: لا! من آبائهم المؤمنين، لا يعلمونهم شيئا من الفرائض، وإذا تعلموا أولادُهم منعوهم، ورضوا عنهم بعَرَضٍ يسير من الدنيا، فأنا منهم بريء، وهم مني براء". 

          يشير النبي إلى الأهل الذين يتناقضون مع أنفسهم في تربية أولادهم، كالأب الذي يصلي ولا يحدِّث ولده عن الصلاة، وإذا صلى لا يدعوه معه إلى المسجد كي لا ينشغل عن عمله أو درسه مثلا. والأم المحجبة التي لا تأمر ابنتها بالحجاب، بل إذا سألت البنت أمها عن الحجاب استنكرت عليها معتذرة أنها ما زالت صغيرة، ولا شيء يدعوها إلى إخفاء مفاتنها من الآن، فتشعر الفتاة حينها أن أمها ليست مرتاحة في سترها، ولا مقتنعة في تحجبها، فتلتبس الأمور عليها، وتقع في حيصَ بيص.

هذا بالنسبة لبيان أهمية هذه المرحلة بفتراتها الثلاث، أما كيفية التعامل معها، فنقول: إن الأولاد أمانة في عنق الوالدين، وحق الأمانة أن تحفظ ويبالغ في رعايتها، >وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ< المعارج 32.

فلا يتوهم الوالدان أنه من حقهما أن يفعلوا ما يشاؤون بأولادهما، حيث يصبح الولد هدفا لإشباع أنانيتهم، وتنفيس غيظهم، وإسقاط عقدهم النفسية. ومن  هنا حث الإسلام على أن تسود الرحمة تربية الطفل، والرحمة تعني أن نصبر على أولادنا، ونلبي حاجاتهم الملائمة لأعمارهم، وإن كانت حقيرة بالنسبة لنا، وأن لا نقهرهم على حب ما نحب، ونفرض عليهم أذواقنا وقناعاتنا نتيجة ضعفهم وعجزهم عن الوقوف أمام أجسامنا الكبيرة، واستغلالا لحاجتهم المادية إلينا، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا تقسروا أولادكم على آدابكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". ما أعظم هذا المعنى! وكم يجسد عظمة ديننا الذي يواكب العصور، محترما التاريخ دون أن يرضى أن يبتلعه ضريح التاريخ. ديننا الذي أعطى كل جيل حقه في اختيار عاداته، ورسم ملامحه الخاصة التي تميزه، ويترقى معها المجتمع الإنساني، ولكن ضمن حدود الحلال والحرام.

ولا يخفى علينا أن أطفالنا براعمُ لينة تحتاج إلى المعاملة اللينة، والرقة، فلا يستخفن أحد قُبلة يقبل بها ولده، فإنها بذرة رحمة تبذرها في فؤاد ولدك، وشجرةُ محبةٍ تغرسها في أعماق ابنتك، ستثمر حنانا ومحبة تقطفهما في كل أفعالهما وتصرفاتهما. وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قبّل ولده كتب الله له حسنة، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة، ومن علّمه القرآن دعي بالأبوين فيكسيان حلّتين يضيء من نورها وجوهُ أهل الجنة". وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبّل كعادته الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الأولاد، ما قبّلت واحدا منهم، فقال: ما عليّ إن نزع الله الرحمة من قلبك؟!

          علينا أن نلتفت أننا لا نجسد مثال العصمة لأولادنا، فنتذكر أننا أمام طفل يرى لنفسه الحق في أن يفعل ما يشاء دون أن يعاتب؛ وأن من حقه أن يكتشف الحياة، ويتذوقها بنفسه، فنكون معه كالمعلم الموجه بحكمة وذكاء، فنساعده على اجتياز الاختبار، لا أن نجتازه عنه، ونلغي إرادته.

          فلنترك أولادنا  يضحكون ويبكون، يركضون ويتعثرون، يمارسون رغباتهم مثل ما يحبون طالما لا يعملون عملا مضرا. لا نعاملهم على أنهم كبارا، ونحاسبهم على ما لا إرادة لهم معه. ومن الأدب المحمدي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو ليسميّه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله. فربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين بال. فيقول(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزِرموا بالصبي -أي لا تقطعوا بوله- ، فيدعه حتى يقضي بوله, ثم يفرغ من دعائه أو تسميته. فيبلغ سرورَ أهله فيه, ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم, فإذا انصرفوا غسل ثوبه".

وتروي لنا أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت مرضعة الإمام الحسين (عليه السلام)، أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ منها الحسين (عليه السلام)، فأراق ماء على ثوبه، فأخذته بعنف حتى بكى، فقال لها (صلى الله عليه وآله وسلم): مهلا يا أم الفضل! إن ثوبي يطهره الماء, ولكن أيُّ شيء يزيل غبار الكدر، وعقدة الحقارة من قلب ولدي؟

          علينا أن نبتعد عن الضرب قدر الإمكان، وأن نكتفي بالكلام القاسي، ليعتاد الولد على هذا الأسلوب، ويبقى مؤثرا فيه، وينشأ قوي النفس.      علينا بالابتعاد عن الصراخ، لأن ذلك يوهن من شخصيتنا أمام أولادنا، بل قد يجعل الآباءَ والأمهاتِ موردًا للضحك من قِبل أولادهم، فإن نبرة عالية بعض الشيء، وكلمة عتاب قاسية، تفي بالمطلوب. ولا يطول غضبنا فإن ذلك مدعاة للجفاء، والمسلم تغلب عليه الرحمة، فلا يتناسب الحقد وطول القطيعة مع ما جاء به البشير النذير (صلى الله عليه وآله وسلم).  

          إن معاملتنا الطيبة لأولادنا تمنحنا فرصة استخراج المواهب المكنوزة فيهم، فإذا أعطيناهم الثقة بالنفس تكلموا أحيانا بما لا يتنبه له الكبار. وهنا أود أن أسرد لكم هذا الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وولديه العباس وزنيب (عليهما السلام)، فقد روي "أنه B أجلس العباس في حجره، وقال له: قل واحد! فقال: واحد، ثم قال له: قل اثنان، فسكت أو امتنع عن ذلك، ثم قال: يا أبتي! إن أستحي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحد. هنا التفتت له السيدة زينب (عليها السلام) وسألته: أتحبنا يا أبه؟ فأجابها أمير المؤمنين (عليه السلام) برأفة: بلى يا بنية! فقالت: لا يجتمع حبان في قلب مؤمن: حب الله، وحب الأولاد، وإن كان ولا بد؛ فالحب لله تعالى، والشفقة للأولاد". أشارت بذلك (عليها السلام) إلى قوله تعالى: >مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ < الأحزاب 4. 

وبهذه الخطة التربوية الإسلامية نبني مجتمعا مثاليا، لا يتلقف من الغير كل شيء لأنه معقد مما تربى عليه، وورثه، بل يفتخر بتعاليم دينه، ويحمل في قلبه رغبة قوية في نشر تعاليم هذا الدين الذي رباه والداه عليه. إذا عرفنا ذلك، فلا ينبغي حينئذ لكل جيل أن ينتقد الجيل الذي يليه، وإنما عليه أن يوجه السؤال لنفسه: هل أحسنتُ تربية هذا الجيل؟ هل استطعت أن أنقل له تعاليم الدين وآدابه كما ينبغي؟ أما أننا علّمنا أولادنا ما نشتهي وكما نحب، متناسين أن الآباء مدرسة الأبناء، وأن الأم التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها، لأن السرير الذي تهز يحمل المستقبل كله.

أسأل الله تعالى أن يعيننا على تربية أولادنا، فننفعهم وننتفع بهم، قال إمامنا الصادق (عليه السلام): "ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنّها، فهي يُعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له".

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

فتاوى (معاملات)

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 الإمام المهدي (1) (عليه السلام)

 مقدار وعمّن ولمن تدفع زكاة الفطرة

 صوم المسافر

 الشَّعْر

 الوطن الاتخاذي

 الجواد شديد العقاب

 الميت المقطَّع

 نية وكيفية الوضوء

 الحضانة والوصاية ونفقة الأولاد في الطلاق

 أماكن التخيير

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net