﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 الحُب والبُغْض بين النبي والآل 

القسم : محاضرات عاشورائية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 28   ||   القرّاء : 17471

أنْ يُحبّ الإنسانُ أحفاده ونَسْلَه، هذا أمر طبيعي جدًّا تقتضيه الفطرة السليمة، والوجدان الإنساني العاطفي، أمّا أن يكون هناك ملازمة ذاتية لا تنفك بين حب الجد وحب الأحفاد، فهذا أمر آخر ينبغي الوقوف عنده، والتأمل في أبعاده.

لكنّ الرسولَ فرضَ الربْطَ بين الحبَيْنِ، حبَ أولاده، و عترته، وحبّه هو (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان يُشير إلى الحسن والحسين (عليهما السلام)، ويقول: "مَنْ أحبَني فليُحبّ هذينِ". فهل هذا الربط نابع من مشاعر النبي كجد؟ حاشا النبيِّ الكريمِ أن تحركه عصبية النسب، وهو القائل: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". إذن هذا الربط ليس ناشئا من سياسة عائلية اتبعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليروج إلى أهل بيته كيفما كان، وإنما اتحاد منشأ حبه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع حبهما (عليهما السلام) حتم هذا الربط وهذه الملازمة.

فالحُبّ بين الرسول والأُمّة، ليس حبًّا لشخصه فحسبْ، فإن العقائد لا تبتنى على العواطف والذاتيات، وإنما حبُّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حبٌّ لما يحمل من خصال مجّدها الباري (عز وجل)، من حلم، وعلم، وفصاحة، وسماحة، وشجاعة، وصدق، وأمانة، فقال (عز من قائل): >وإنك لعلى خلق عظيم<.

وإذا كان الحسنان، قد استوفيا هذه الخصالَ، وبلغا إلى هذه المقامات حَسَبًا ونَسَبًا، فمن البديهيّ أنّ مُحِبّ الرسول، سيحبّهما، بنفس المستوى، لِما يجد فيهما ممّا يجد في جدّهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ولأجل هذا المعنى بالذات، نجد الرسولَ يعكسُ تلك الملازمة، فيقول في حديث آخر: "من أحبّهما فقد أحبّني". فيجعل حُبَهُ متفرعًا عن حبّهما، بعد أن جعل في الحديث الأول حبّهما متفرّعًا عن حبّهِ.

فإذا كان سببُ الحُبّ ومنشؤُه واحدًا، فلا فرق بين الحديثين: "مَنْ أحَبّني فليُحِبَ هذيْنِ", و "مَنْ أحَبَهما فقد أحبّني"، سوى تأكيد هذا الربط، ووحدة الحال، بل وحدة المنشأ والوجود والهيولى. ولا تجحظ العينان من سماع ذلك إذا سمعت من قبل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق أبيهما: "يا علي! أنا وأنت من شجرة واحدة، وباقي الناس من شجر شتى"، وقوله  (صلى الله عليه وآله وسلم): "خُلِقت أنا وعلي من نور واحد"، وقوله له (عليه السلام): "يا علي! أنا مدينة الحكمة، وأنت بابها، ولن تؤتَ المدينة إلا من قِبَل الباب. وكذب من زعم أنه يحبني ويبغضك؛ لأنك مني وأنا منك، لحمك من لحمي، ودمك من دمي، وروحك من روحي، وسريرتك من سريرتي، وعلانيتك من علانيتي، وأنت إمام أمتي وخليفتي عليها بعدي. سعد من أطاعك، وشقي من عصاك، وربح من تولاك، وخسر من عاداك، وفاز من لزمك، وهلك من فارقك، مثلك ومثل الأئمة من ولدك بعدي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ومثلكم مثل النجوم، كلما غاب نجم طلع نجم إلى يوم القيامة".

هذه هي نسبة أبيهما له (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما نسبة أمهما، فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "فاطمة روحي التي بين جنبي". فإن كان والد الحسنين روح النبي، وإن كانت أم الحسنين روح النبي، وهما علة ولديهما، وبناء على وحدة السنخية بين العلة والمعلول، فهما (عليهما السلام)روح النبي، ولحمه، ودمه، وسريرته، وعلانيته.

ولقائل أن يقول: لماذا كلّ هذه التصريحات التي يتصدرها قوله تعالى: >قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى<? وإنّ المؤمنين بالرسالة والرسول، لابُدّ وأنّهم يُكرمون آل الرسول, ويودّونهم، ويحبّونهم حبّ العقيدة والإيمان، بل على أقلّ التقادير، مشيًا على أعرافٍ عربية؛ من قبيل: "لأجْل عَيْنٍ ألْفُ عَيْنٍ تُكْرَمُ"، و "المَرْءُ يُحفظ في وُلدهِ". تلك الأعراف التي كانت سائدةً بين أجهْل البشر في ذلك العصر، فكيف بالّذين ملأتهم تعاليم الإسلام وَعْيًا؟ وقد احتج بذلك الإمام الحسين (عليه السلام) على أعدائه في ساحة كربلاء حينما حالوا بينه وبين عياله من النساء والأطفال؛ حيث قال: "يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون".

هذا فضلا عمَّا كان لأهل البيت النبويّ من الكرامة والشرف والمكانة العلميّة والعمليّة، ممّا لا يخفى على أحدٍ من المسلمين. فإذا نظرنا إلى آثارهم ومآثرهم، فهل نجد أحدًا أحقّ بالحبّ والتكريم منهم? وأَوْلى بالتفضيل والتقديم؟

إذا تبين ذلك، فلماذا كلّ ذلك التأكيد من الله والنبي على حُبّهما, وربط ذلك بحبّه هو؟ إنّ هذا السؤال تسهل الإجابة عنه إذا لاحظنا أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أضاف على "من أحبّهما فقد أحبّني", قوله: "ومن أبغضهما فقد أبغضني".

عجبًا، فكيف يُفترضُ وجود من يُبغض الحسن والحسين؟ ولماذا يُريدُ أحدٌ ممّن ينتمي إلى دين الإسلام، أن يُبغض الحسنَ أو الحسين ريحانتي رسول الله؟

هذه الأسئلة أصعب من السؤال السابق؛ إذ يلاحَظ فيها أنّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فرضَ وجود من يُبغض الحسنين، ورَبَطَ بين بُغضهما وبُغضه هو،  ثمّ هناك ملاحظة في مسألة البُغض، وهي أنّ الملازمة فيه من طرف واحد، وقد كان في الحبّ من الطرفين. فلم يَرِد في البغض: "من أبغضني فقد أبغضهما"، والسبب أنّ فرض بُغض النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في المجتمع الإسلاميّ أمر لا يمكن تصوُّره ولا افتراضُه؛ إذ هو يساوي الكفر بالرسالة ذاتها، وبالمرسِل والمرسَل أيضًا. لكن بُغْض آل الرسول, فهو على فظاعته، قد تحقّق على أرض الواقع؛ حيث كان في أُمّة الرسول بالذات مَن أبغضَ الحسنين، ولعنَهما على منابر الإسلام، بل وُجِدَ في الأُمّة مَنْ شهر السيفَ في وجهيهما، وقاتلهما، وقتلهما. وهل قُتِلَ الحسينُ (عليه السلام) على يدِ أناسٍ من غير أُمّة جدّه الرسول محمّد?

والجواب: إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علم أنه بعدما قويت شوكة الإسلام، لم يعد المنافق والكافر قادرا على إظهار بغضه علانيةً، فأعطى المسلمين أمارة تفضحهما من خلال بُغْض الحسن والحسين؛ لأنّ مَنْ أبغضهما فقد أبغض النبيّ, لِما في بغضها من انتهاك المُثُل التي يحتذيانها، ونبذ المكارم التي يحتويانها، ورفض الشرائع التي يتّبعانها, وهي نفس المُثُل والمكارم والشرائع التي عند الرسول نفسِه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبغضهما ليس إلاّ بغضًا له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولرسالته.

ولقد رَتَبَ النتائج الوخيمة على بُغضهما في قوله: "مَنْ أحبّهما أحببتُه، ومَنْ أحببتُه أحبَه الله، ومَنْ أحبَه الله أدخلهُ جنّات النعيم. ومَنْ أبغضهما أو بغى عليهما، أبغضتُه، ومَنْ أبغضتُه أبغضَه اللهُ، ومَنْ أبغضَه اللُه أدخله نارَ جهنّم، وله عذاب مقيم".

لكنّ الذين أسلموا رَغْماً، ولم يتشرّبوا بروح الإسلام، وظلّتْ نعراتُ الجاهليّة عالقةً بأذهانهم، ومترسّبةً في قلوبهم، حتى يسوغوا لأنفسهم التعرض لآل الرسول، جعلوا كلّ الذي وردَ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ أهل بيته الكرام، واردًا بدافع العاطفة البشريّة، نابعًا عن هواهُ في أبناء ابنته، مُعْرضين عن قدسيّة كلامه الذي حاطه بها الله، فجعل كلامه وحيًا، وحديثه سُنّةً وتشريعًا، وطاعته فرضًا، ومخالفته كفرًا ونفاقًا، وجعل ما ينطقه بعيدًا عن الهوى، بل هو وحي يُوحى, فأعرضوا عن هذه النصوص الآمرة بحبّ الحسنين والآل، والناهية والمتوعّدة على بغضهما، بأشدّ ما يكون, ونبذوها وراءهم ظِهْرِيًّا، فَعَدَوْا على آل الرسول ظلمًا، وعَسْفًا، وتشريدًا، وسبًّا، ولعنًا، وقتلاً. وأضاعوا على آل محمّدٍ فُرَصَ إرشاد الأُمّة وهدايتها تشريعيًّا، فلم يفسحوا لفقههم أن يُنشَر بين الأُمّة، ومنعوهم من بيان الأحكام الإلهيّة، وحرّفوا وِجْهة الناس عنهم، إلى غرباء دخلاء على هذا الدين وأصوله، وسننه ومصادر معرفته وفكره.

فأصبحتْ الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ لآل محمّدٍ صلوات الله وسلامه عليهم فقهاً يتّصِل - بأوضح السُبُل وأصحّ الطرق - برسول الله إلى جبريل إلى رب العزة، من دون الاتّكال على الرأي والظنّ. فترى معظم المسلمين المضلَّلين اليوم يدعون حب آل طه مع اتباعهم غيرهم فقها وحديثا، دون أن يلتفتوا إلى أن دعوة الله إلى ود القربى لم تكن إلا دعوة إلى التأسي بهم، والاهتداء بهديهم. بل يدعون حبهم ويعيبون على شيعة أهل البيت أن يجسدوا حبهم بإحياء ذكراهم، ونشر مآثرهم، والاستنان بسنتهم، وانتقاد مخالفيه، ولعن ظالميهم!

تعصي الإله وأنت تزعُمُ حبًّه           هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته            إن المحب لمن يحب مطيع

ثم في هذا العصر الذي لم يعد ممكنا إخفاء الحقائق، بعدما صارت كتب التاريخ والسير والحديث بين الأيادي، أُحرج الخلف من سيرة السلف في موقفهم مما أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فغطوا على انحرافهم عن مذهب أهل البيت، بادعاء حب، لا يعدو بل لا يصل إلى حبهم لزوجاتهم. وخوفا ممن يحملون تراث أهل البيت أن ينشروه، حولوا بوصلة البغض والعداوة إلى أتباع هذا المذهب الحق؛ إذ لم يعد بإمكانهم إظهار العداوة لعلي الذي قطّع أصلابهم، وضرب خراطيمهم حتى قالوا لا إله إلا الله، ولم يعد بإمكانهم إظهار البغض لآل الرسول، ولكن إمامنا الصادق (عليه السلام) فضحهم بأمارة نفاقهم؛ حيث  قال: "ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت؛ لأنك لا تجد رجلا يقول: أنا أبغض محمدا وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم، وهو يعلم أنكم تتولونا، وأنكم من شيعتنا".

فهل ينجحون ببغضهم أن يغشوا الحق بضلالهم وتضليلهم؟ أجابت السيد زينب (عليها السلام) يزيد قائلة: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحَض[1] عنك عارها، وهل رأيك إلا فند[2]، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، نسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل".



[1]  ترحض: تغسل.

[2]  فَنَد: خرافة وخطأ.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 الإفطار العمدي وكفارته في رمضان وقضائه

 غاية الخلق

 الشكور العليّ

 أحكام عاشوراء

 شروط المغسِّل

 إثبات وجود الله تعالى

 المقتدر

 المناجاة السابعة: مناجاة المطيعين لله

 البلاد النامية

 الإدغام

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net