رومانسية الإمام الباقر ولبس الأحمر
وَرَدَتْ في كتابِ (الكافي) لثقةِ الإسلامِ مُحَمَّدِ بنِ يعقوبَ الكلينيِّ روايةً عَنِ الحسنِ بنِ عليٍّ أبي عليٍّ الأشعريِّ القُمِّيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الجبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بنِ يَحْيَى البَجْلِيِّ، عَنْ بُرَيْدِ بنِ معاويةَ العِجْلِيِّ، عَنْ مالِكِ بنِ أَعْيَنٍ الجَهْنِيِّ، قالَ:
"دَخَلْتُ عَلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ البَاقِرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ حَمْرَاءُ جَدِيدَةٌ شَدِيدَةُ الحُمْرَةِ، فَتَبَسَّمْتُ حِينَ دَخَلْتُ، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): كَأَنِّي أَعْلَمُ لِمَ ضَحِكْتَ! ضَحِكْتَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ عَلَيَّ! إِنَّ (الثَّقَفِيَّةَ) أَكْرَهَتْنِي عَلَيْهِ، (وَأَنَا أُحِبُّهَا)، فَأُكْرِهَتْنِي عَلَىٰ لُبْسِهَا، ثُمَّ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): إِنَّا لَا نُصَلِّي فِي هَذَا، وَلَا تُصَلُّوا فِي المُشَبَّعِ المُضَرَّجِ، قَالَ مَالِكٌ: ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَقَدْ طَلَّقَهَا، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): سَمِعْتُهَا تَبَرَأُ مِنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَلَمْ يَسَعْنِي أَنْ أُمْسِكَهَا وَهِيَ تَبْرَأُ مِنْهُ" [الكافي ج٦، ص٤٤٧، ح٧].
وفي روايةٍ أخرى بمضمونٍ مقاربٍ: "... وَكَانَتْ تَرَى رَأْيَ الخَوَارِجِ، فَأَدَرْتُهَا لَيْلَةً إِلَىٰ الصُّبْحِ أَنْ تَرْجِعَ عَنْ رَأْيِهَا، وَتَتَوَلَّىٰ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (صَلَوَاتُ اللّٰهِ عَلَيْهِ)، فَامْتَنَعَتْ عَلَيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَّقْتُهَا". [الكافي ج٦، ص٤٧٧، ح٦]
الشرح:
كانَ مالكُ بنُ أعينٍ مِنْ أصحابِ الإمامِ الباقرِ (عليه السلام)، فدخلَ عليه مرَّةً، فتفاجأَ مِنْ لُبْسِ الإمامِ ثوبًا شديدَ الحُمْرَةِ الذي لَا يَسْتَمْلِحُهُ العُرْفُ حينها، خاصَّةً لمثلِ ذوي الشأنِ، فتبسَّمَ لذلك مستهجنًا، فأدركَ الإمامُ سببَ تَبَسُّمِهِ، فَبَيَّنَ لمالكٍ عِلَّةَ ذلك معتذرًا بأنَّ زوجتَه - وهي مِنْ (بني ثقيف) - قد أهْدَتْهُ إيَّاهُ، وأكرهتْه على لُبْسِهِ، فلم يُحْبِبْ أنْ يكسرَ خاطرَها لشدَّةِ لُطْفِهِ ولمكانتِها لديه، فقد كانَ (عليه السلام) (يُحِبُّهَا)، فلمَّا تزاحمَ استهجانُ العُرْفِ لُبْسَ اللونِ الأحمرِ المُضَرَّجِ مَعَ مجاملةِ الزوجةِ الحبيبةِ، قدَّمَ جَبْرَ خاطرِها بِلُبْسِهِ (داخلَ الدارِ)، مُسْتَدْرِكًا أنَّه لا يفعلُ ذلك في الصلاةِ لكراهتِه، وهذا ما ينبغي للمؤمنين امتثالُه.
ثُمَّ ذكرَ مالكٌ أنَّه حينما عادَ لزيارةِ الإمامِ في آنٍ لاحقٍ، وجدَهُ قد طَلَّقَ تِيكَ الزوجةَ التي كانَ يحبُّ، مُبَيِّنًا عِلَّةَ التطليقِ، وهو أنَّه (عليه السلام) سمعَها تبرأُ من جدِّه وإمامِه عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عليهما السلام)، فَثَقُلَ عليه إمساكُها؛ أي إبقاؤُه على زَوْجِيَّتِهَا. وفي الروايةِ التاليةِ أنَّه (عليه السلام) مَنَحَهَا سوادَ اللَّيلِ لعلَّها ترجعُ عَنْ نَصْبِهَا العداءَ لأميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)، ولكنَّها آلَتْ إلَّا أنْ تُعَادِيَهُ وتَبْرَأَ منهُ.
فوائد الرواية ونكاتها:
1️⃣ تواضعُ الإمامِ مَعَ صَحْبِهِ ولِينُ عَرِيكَتِهِ وسهولةُ مَعْشَرِهِ وسَمَاحَتُهُ التي فتحتْ بابَ الكلامِ في شأنٍ خاصٍّ متعلِّقٍ بالزوجةِ واللِّباسِ.
2️⃣ ضرورةُ تبيينِ الأُسْوَةِ الأحكامَ الشرعيَّةِ لأتباعِه ومُريديه، خصوصًا في مقامِ دفعِ الشبهاتِ وجَبِّ الغيبةِ ودفعِ سوءِ الظنِّ عَنِ النَّفْسِ؛ كما قالَ أميرُ المؤمنين (عليه السلام): "مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْتُهْمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ".
3️⃣ كراهةُ لُبْسِ الثوبِ المُشَبَّعِ بالحمرةِ في الصلاةِ، لا مجرَّدِ الأحمرِ خفيفِ الحمرةِ.
ملاحظة: (يُكْرَهُ أيضًا لُبْسُ اللونِ الأسودِ مطلقًا خصوصًا في الصلاةِ ما خلا العمامةَ والخُفَّ والكِساءَ. ويُسْتَحَبُّ لُبْسُ اللونِ الأبيضِ مطلقًا في الصلاةِ وغيرِها، وكذا في تكفينِ الموتى، بل ثبتَ أنَّ عمامةَ رسولِ اللّٰهِ كانتْ سحابِيَّةَ اللونِ إلَّا في الحربِ؛ حيثُ كانَ يعتمرُ العِمَّةَ السوداءَ).
4️⃣ استحبابُ مجاملةِ الزوجةِ وعدمُ كسرِ خاطرِها طالما لا يتعارضُ ذلك مع حرمةٍ حُكْمِيَّةٍ، ولا كراهةٍ صلاتِيَّةٍ كَخَلْعَ كلًّ ما يكرهُه الحقُّ (سبحانه) عندَ الوقوفِ بينَ يديه وإنْ لم يصلْ إلى حدِّ التحريمِ؛ فإنَّ مثلَ هذه المجاملةِ لا تُقَلِّلُ مِنْ هيبةِ الزوجِ، وإنَّما ترفعُ مِنْ مقامِه ودرجتِه عند اللَّهِ، بَلْ هي مِنْ مصاديقِ قولِه تعالى: {... وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ...} [النساء].
5️⃣ الحبُّ مِنْ أعظمِ المشاعرِ المستحبَّةِ التي ينبغي للزوجِ أنْ يبادلَها زوجتَه؛ وكما وردَ عَنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي، مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إلا لَئِيمٌ".
6️⃣ عدمُ الضَّيْرِ مِنِ اختيارِ الزوجةِ المسلمةِ بداعي محبَّتِها، بَلْ هو الأصلُ في اختيارِ الزوجةِ كما حصلَ في أوَّلِ لقاءٍ بين أبينا آدمَ وأُمِّنَا حَوَّاءَ (عليهما السلام). فلَا يَتَوَهَمَنَّ أحدٌ أنَّ الشريعةَ الإسلاميَّةَ تُناجِزُ الفطرةَ الإنسانيَّةَ وتُعاندُها في مَنْعِ الحبِّ، أو أنَّها تُعارِضُ الزواجَ بدافعِ المحبَّةِ! فلَا ينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ نَيًّقًا في اختيارِ الزوجةِ، شريطةَ أنْ لا تتعارضَ هذه المحبَّةُ مَعَ بُغْضِ أولياءِ اللّٰهِ تعالى، وعدمُ البَأْسِ بَلِ استحسانُ - على أقلِّ تقديرٍ - تسريحِها وتطليقِها في هذه الحالِ، فإنَّ القلبَ المبغضَ لآلِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وصحبه) لا ينبغي له أنْ يكونَ محلَّ جَذْبٍ للمؤمنين؛ فقد قالَ تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ... (٢٦)} [النور].
7️⃣ عدمُ الاستعجالِ في التطليقِ مهما كانَ الداعي خطيرًا، بَلْ حتى في الأمورِ العَقَدِيَّةِ، وضرورةُ إعطاءِ الزَّوْجَيْنِ الفرصةَ في تصحيحِ مسارِها بحال استبانَ انحرافُها عَنْ جادَّةِ الصوابِ؛ قالَ رسولُ اللّٰهِ (صلى اللّٰه عليه وآله وصحبه): "أَوْصَانِي جِبْرَئِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِالمَرْأَةِ حتىٰ ظَنَنْتُ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي طَلَاقُهَا إلَّا مِنْ فَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ".
➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين الحسيني
واتساب: 009613804079
|