﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 الزهد في الصيام 

القسم : محاضرات رمضانية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 29   ||   القرّاء : 17277

          بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وخاتم النبيين أبي القاسم ياسين، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى أن يشاء رب العالمين، وبعد...

          حينما نتكلم عن الزهد، يتبادر إلى ذهن الكثيرين رجل ممزق الثياب، مهملٌ نفسه ومظهره، غير عابئ بما يدور حوله، بينما الزهد في الإسلام غير ذلك، وإنما هو صفة الأنبياء والأولياء والمخلصين. فما هو الزهد؟ وما هي مراتبه؟ وكيف نحصله؟

          أ- ما هو الزهد؟ قيل: "ليس الزهد أن لا تملك شيئًا، وإنما الزهدُ أن لا يملكك شيءٌ". يعني ليس الزهد أن تترك الدنيا ترك المضيع لها، وإنما الزهد أن لا تجعل الدنيا متمكنة منك، فتعيش هاجس البقاء فيها، وادخار المال فيها ادخار تخزين، وأن تقبل على متعها إقبال الخائف من فواتها، فتكون بذلك قد قدمتها على آخرتك. قال الإمام الصادق عليه السلام: "ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال، وتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل".

          إذًا الزهد ليس تضييع الدنيا التي زينها لله لك لتبتغي بها الدار الآخرة، وإنما الزهد أن لا تعيش الدنيا عيشة الشاري لها بالآخرة. قال تعالى: >وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...(77)< القصص.

          من هنا ليس من علامات الزهد الفقر، لأن الفقير قد يكون راغبا في تحصيل الدنيا، ومجاهدا في شرائها بالآخرة، إلا أنه لم يفلح. وكذلك ليس من علامات حب الدنيا الغنى، لأن الغني قد يكون زاهدا في الدنيا، راغبا بابتغاء فيما آتاه الله منها الدار الآخرة، ألا أن الله وسع في عطائه، ورزقه مما لا يحتسب.

          من هنا قيل: ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تترك الدنيا في قلبك وهي في يدك، فكم من غني لم يشغله غناه عن الله، وكم من فقير شغله فقره عن الله؛ حيث تراه ساعيا في تجميع القروش قرشا فوق قرش مضيقا على عياله، فإن الغني المنفق أفضل من هذا الفقير الحريص.

          يعني هل يكون الغني زاهدا وهو يملك الملايين؟ الجواب: نعم! وكيف ذلك؟ الجواب: إذا لم يفرج إذا زادت، ولم يحزن إذا نقصت؛ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "الزهد كله بين كلمتين من القرآن؛ قال الله سبحانه: >لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ (23)<" الحديد. لكي لا تأسوا على ما فاتكم، يعني لا يصيبك الأسى والحزن الشديد حينما تقع الخسارة في البورصة مثلا، فيرتفع الضغط والسكر في الدم، وتنهار انهيار الضعيف اليائس، فإن هذا الأسى لا يكون على الدنيا الزائلة؛ قال أمير المؤمنين:

لئن ساءني دهر عزمت تصبرا            فكل سوء لا يدوم يسير

          وفي ظل حديثنا عن الغنى والفقر، نسأل: هل الله يريدنا فقراء أو أغنياء؟ الجواب: لا يريدنا أغنياء ولا فقراء، وإنما يريدنا أن نرضى عنه وبما قسمه لنا، ليرضى عنا، فإنه تعالى كما قال رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبنا ونياتكم وأعمالكم". والرزق أيها الأحبة مكتوب مقسوم، قال تعالى: >وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (23) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ< الذاريات. وقال أمير المؤمنين:

لا تعجلن فالرزق ليس بالعجل  الرزق في اللوح مكتوب مع الأجل

فلو صبرنا فإن الرزق يطلبنا              لكنما خلق الإنسان من عجل

ب- أما السؤال الثاني: ما هي مراتب الزهد؟

نقول: الزهد على مراتب ثلاث:

1- الزهد في الحرام، وهو واجب على كل مسلم، وليس بالأمر الهين، حتى ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أزهد الناس من ترك الحرام".

2- الزهد في المكروه، وهو مستحب؛ إذ كل مكروه جائز؛ كترك تنويع الطعام على المائدة، فإن الأكل من صنف واحد في صلاح البدن، ومواساة الفقير، وفوق كل ذلك مرضاة الرب.

3- الزهد في المباح، كتركك الطعام والشراب في شهر رمضان ، وهو مستحب أيضا تأديبا للنفس، فإن النفس إذا اعتادت على أن تمتنع عن المباح سهل عليها الامتناع عن المكروه ومن باب أولى عن الحرام.

          ج- بعد تعريف الزهد، وبيان مراتبه، نسأل ما هي أبسط طريقة لتحصيل الزهد والاتصاف به؟ الجواب: حينما تعتقد اعتقاد اليقين أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر، وأنها مهما حليت بعينك، وطابت في فمك، سيكون آخرها كآخر طعام ملحته وطيبته. فقد ورد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نام على حصير، فقام وقد أثر في جسده، فقالوا: لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل، فقال  (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أنا والدنيا؟! إنما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها".

قال تعالى: > إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (في سرعة فنائها) كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا (بالأشجار والنبات) وَازَّيَّنَتْ (في عين رائيها) وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا (أي على الانتفاع بها على الدوام) أَتَاهَا أَمْرُنَا (من عاصفة أو سيل أو طوفان) لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا (محصودة مقلوعة ذاهبة يابسة تالفة) كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (كأنها لم تكن موجودة بالأمس) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) < يونس.

حينما تعتقد بزيف هذه الدنيا، وأن ما وراءها حياة خالدة أعظم من حياة الدنيا، كما قال تعالى: >وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) < العنكبوت، حينئذ يكون إعراضك عن الدنيا، وزهدك بها أمرا حتميا.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الزاهدين بالدنيا، المعرضين عن زيفها الزائل، المتعلقين بالآخرة، الراغبين بمنازلها ونعيمها الباقي. 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

البحوث الفقهية

بحوث فلسفية وأخلاقية

البحوث العقائدية

حوارات عقائدية

متفرقات

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 هل يقال: أنا فاطر أم مغطر؟

 متلازمة ستوكهولم

 لماذا اختص الله شهر رمضان لنفسه

 طلاق الحامل

 سياسة الخنزير

 نشر الأحاديث مفطر

 رمضان مهبط الكتب السماوية

 كيف دعانا الله إلى الصوم

 سياسة الحمار والكلب

 آراء الفقهاء في رؤية الهلال

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 موارد وجوب التيمم

 المعاد

 زيارة الإمام محمد بن علي الجواد التقي (عليهما السلام)

 المحيط الفاطر

 زيارة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)

 الإمام محمّد بن عليّ الباقر (عليهما السلام)

 سياسة الخنزير

 فضل وأعمال ليلة النصف من شعبان

 غسل السقط

 أدلة استحباب تعدد الزوجات

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net