﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 أهمية المسجد 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 15232

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد للهِ المبدئِ المعيدِ، الفعالِ لما يريد، من هداه فهو السعيد، ومن أضله فهو الطريد البعيد. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأئمة، الأوصياء الأبرار، وعيبة الأنوار، ذوي السكينة والوَقار، والحِكم والآثار، المهديين الهداة، وسفينة النجاة. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله الذي إليه مرجع العباد، وبين إصبعيه يتقلب الفؤاد.

قال تعالى: >إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ< التوبة 18.

إن الملك سبحانه مالكُ السماواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما، فكل ما في الوجود منسوب إليه، فهو خالقه وبارئه ومالكه، بيد أنه سبحانه أحبَّ أن يجعل لنفسه بيتا يستضيفُ فيه عباده، ويقدمُ لهم قِراه، ويجمعُهم على صراطه وهداه، فكان المسجد بيتَ الله، ومحلَّ إكرامه، وملتقى أحبته، ومنبرَ كلمته؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "المساجد بيوت الله، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض"، وقال الصادق (عليه السلام): "مكتوب في التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد".

وأول مسجد هو بيت الله الحرام في مكة؛ >إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ< آل عمران 96.

وقد أنزله الله ياقوتة حمراء أيام أبينا آدم B، ففسق قوم نوح (عليه السلام)، فرفعه الله وأبقى قواعده، حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) فرفعها مع ولده إسماعيل (عليه السلام) ؛ قال تعالى: >وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ< البقرة 127.

كان وما زال المسجد يؤدي دوره في جمع الناس، وإيقاظ شعورهم الإيماني، وإعادتهم إلى فطرتهم الأولى الشاهدة على التوحيد >...فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ...< الروم 30. حيث يرتفع بين جنباته صوت الحق، ويدوّي كلام الدعاة إلى الفضيلة، حتى لما فشت الجاهلية وعبد الناس الأوثان، لم يخلُ بيت الله من نفوس صافية، وأرواح سامية، عُرفوا بالحنفاء، أنفوا أن يسجدوا لتماثيل الخشب والحجارة المحبّسة بين جدران الكعبة، ولله دره سيدُ شهداءِ أُحُد حمزةُ بنُ عبد المطلب حينما قال: "عندما أجول الصحراء أعرف أن الله أعظم من أن يوضع بين أربعة جدران".

في المسجد نتعلم تقدير النظام حينما نصطف بلا عوج ولا التواء، نأتم بإمام واحد، فلا نسبقه بالقول، ولا نتقدمه بالفعل. وما أعظم وأهيب مشهد المصلين حينما يقومون معا، ويركعون معا، ويسجدون معا، حتى أن نصارى نجران لما أرسلوا عينا من عيونهم إلى المدينة ليعرفوا سبب انتشار الإسلام وقوته، فشاهدهم حال صلاتهم، ثم رجع إليهم وقال: إنكم لن تقدروا على هؤلاء القوم! فسألوه عن العلة، فقال: إنهم يقيمون عرضا عسكريا خمس مرات في اليوم.

وفي المسجد نتعلم ونطبق المساواة التي سنـّها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "الناس سواسية كأسنان المشط"، فالصف الأول لمن حضر من المصلين، فنجد الغني بجانب الفقير، والخادم بجوار المخدوم، والرئيس بقرب المرؤوس. الكل يقف بين يدي رب واحد، يتجهون إلى قبلة واحدة، ويقتدون بإمام واحد >... وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا< طه 109.

والمسجد رمز الوحدة والتحابب والتعاون، وقد تجلت بواكير هذه المعاني في بناء المسجد النبوي (على ساكنه وعلى آله الصلاة والسلام)، حيث اشتبكت يد عليّ العربي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي الإفريقي، في أروع لوحة تشكيلية عكست وميض شعلة الإسلام التي لا تنطفئ.

والمسجد لا يرد ولا يمنع زائرا إلا من كان مشركا بالله؛ قال تعالى: >...إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ...< التوبة 28. أما الأولاد ممن يخاف أن لا يراعوا الطهارة، أو يثيروا ضجة تسلب الروحانية من المسجد، وتخل باحترامه، فالأفضل أن لا نصطحبهم حتى يتزنوا ويكبروا؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "جنبوا صبيانكم مساجدكم ومجانينكم ورفعَ أصواتكم وشراكم وبيعكم".

والمسجد أيضا ليس حكرا على الرجال، وإنما هو مفتوح ومشرع للمرأة التي تربي وتنشئ الأجيال. فعن أبي سعيد الخدري أن النساء قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك. فواعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن".

وأزيدكم: إن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي! إني وافدة النساء إليك، واعلم -نفسي لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضِّلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا! فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها، ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة، وأعلِمي مَن خلفَك من النساء أنَّ حُسْنَ تبعُّلِ إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله. فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا".

نعود لنقول: إن كل مسجد يشيَّد على التقوى هو مصحة نفسية، ومنارة أخلاقية تنأى بنا عن بؤر الفساد والتحلل، وجامعة إسلامية كبرى تؤدي رسالتها التعليمية والإرشادية على مر العصور وكر الدهور، ينتسب إليها الصالحون، ولا يتخرج منها إلا المصلحون. هل لأن مساجدنا عاليةٌ أو مزخرفة أو مذهّبة؟ لا! وإنما لأن من اعتاد على دخول المسجد زكت نفسه، وقويت صلته بربه، واشتهر بين الناس بالسلوك الحسن، من هنا ورد عن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان".

أما كيف يكون للمسجد هذا الدور الكبير في حياتنا؛ فيوضح لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك بقوله: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا مستفادا في الله، أو علما مستطرفا، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة ترده عن ردى، أو يسمع كلمة تدله على هدى، أو يترك ذنبا خشية أو حياء".

1- في المسجد نتعرف على المؤمنين المصلين المسجديين الصالحين، فإنك لن تلتقي في المسجد بالفاسدين، فليس هذا مكانهم ولا مظنتهم.

2- وفي المسجد نسمع من الكلام الحكمة التي نستطرفها فتؤثر في وجداننا ما لم تؤثره السنون؛ كقول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أصبح معافـى في بدنه، مخلا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".

3- وفي المسجد نسمع الآية محكمةً واضحة الدلالة، بعد تشابهها علينا؛ كما إذا قرأنا قوله تعالى: >وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ< القيامة 22-23. فتوهمنا أنّا نعاين الله يوم القيامة كما نعاين الأجسام، فنهتدي إلى قوله تعالى: > لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ< الأنعام 103.

4- وفي المسجد تسمع الكلمة التي تدلك على طريق الهدى إن كنت تائها في صحراء هذا الدنيا، من خلال معرفة أحكام الله في عباداتك ومعاملاتك.

5- وفي المسجد تسمع الكلمة التي تردك عن فعل فيه هلاكك، فقد تكون ناويا على فعل ما إثر عودتك من المسجد، كأن تضرب ولدك، أو تسيء إلى زوجتك، فإذا سمعت الخطيب يذكرك بحسن الخلق والصبر على الأهل والولد، رجعت إلى صوابك، واستعذت من شيطانك، وحمدت الله على نعمة القلب التقي الذي إذا اتعظ تاب وأناب؛ >إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ< الأعراف 201.

6- وفي المسجد تسمع الكلمة التي تبين لك عظمة ذنبك، فتتركه خشية، إذا سمعت قول الصادق (عليه السلام): "درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام".

7- وفي المسجد تسمع الكلمة التي تخجلك من ذنبك فتتركه، إذا سمعت قول الجواد (عليه السلام): "واعلم أنك لا تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون".

8- وفي المسجد نحظى بنظرة رحمة إلهية تشملنا، فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوؤه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته".

 هذه غنائم المسجد، وما أعظمها غنائم، وما أجزلها عطاء، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما قال حكاية عن رب العزة (عز وجل): "ألا طوبى لمن توضأ في بيته، ثم زارني في بيتي، ألا إن للمزور كرامة الزائر، ألا بشر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة". وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ألا إن للمساجد أوتادا، الملائكة جلساؤهم، إن غابوا يفتقدونهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم".

نسأل الله السميع العليم أن يكتبنا من روّاد بيوته المساجد، ولا يحرمنا من ضيافته إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 وجهت فؤادي كالشمس

 زيارة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) يوم الاثنين

 المتكبِّر الخالق

 السجود

 أحكام التيمم

 المؤمن

 البارئ المصوِّر

 وجود الله تعالى 1

 التعب من الصيام

 نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net