🔴 سِرُّ {أَنِّي أَذْبَحُكَ}
ما مِنْ ريبٍ في قلوبِ العارفينَ، أنَّ اللّٰهَ (سبحانه) هو مَعدِنُ الرحمةِ، ومَنْبَعُ الرأفةِ، ومُفِيضُ الشفقةِ، فكيفَ يُتصوَّرُ – وهو المتَّصفُ بصفاتِ الجلالِ والجمالِ – أنْ يأمرَ أبًا رؤومًا، أنْ يسلَّ سكينَ الطاعةِ ليذبحَ فلذةَ كبدِه؟!
هنا، لا بدَّ أنْ تُشرَّعَ نوافذُ الروحِ والعقلِ، وتُفتَحَ سدودُ روافدِ النقلِ، عسى أنْ يتسلَّلَ منها شيءٌ مِنَ النفحاتِ، أو يرويها غيضٌ مِنَ الفيوضاتِ، فنُعيدُ طرحَ السؤالِ، ونجيبُ عليه بلا استعجالٍ:
هل أرادَ اللّٰهُ فعلًا مِنْ نبيِّه إبراهيمَ ذَبْحَ ابنِه إسماعيلَ (عليهما السلام)؟!
نقولُ:
- أوَّلًا:
لو كان المقصودُ ذبحَ الرقبةِ على نحوِ التحقيقِ، فَلِمَ لم يأتِ الأمرُ الإلهيُّ صريحًا بلسانِ وحيٍ دقيقٍ، شأنَ التكاليفِ العظامِ والأوامرِ الجسامِ؟! فيقولُ بما لا يحتملُ التأويلَ، ولا القالَ والقيلَ: (يا إبراهيمُ! اِذْبَحْ ابْنَكَ إسماعيلَ)؟! وإنَّما جاءَ الأمرُ في صورةِ (رؤيا)، تُرى ولا تُسْمَعُ، وتُتَلقَّى ولا تُبَلَّغُ: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (١٠٢)} [الصافات].
أليس ذلك إلماعًا خفيًّا إلى أنَّ المرادَ لم يكنْ ذبحًا جسديًّا، بل تجسيدًا معنويًّا، يكتنزُ سِرًّا عَلِيًّا، ورمزًا سَنِيًّا، وأنَّ اللّٰهَ خاطبَ نبيَّهُ بلغةِ (الصورةِ) لا (العبارةِ)؛ لأنَّ المرادَ - ظاهرًا لا باطنًا - هو المشهدُ لا الحدثُ، بل النيَّةُ لا العملُ؟!
- ثانيًا:
إنَّ إرادةَ اللّٰهِ لا تُغلَبُ، ولا يُعجِزُها في الكونِ ما يبقى وما يَذْهَبُ، هو المقتدرُ إذا قضى أمرًا، فـ"كُنْ" يقولُ، فيكونُ ما قالَ ولا يُستَغرَبُ. فلو أرادَ الذبحَ حقًّا واقعًا، لَمَا صدَّه شيءٌ، بل ينثني كلُّ شيءٍ لِمَا أرادَ ويتأدَّبُ.
فلَمَّا لم يقعِ الذبحُ، عُلِمَ أنَّه لم يجرِ به اليراعُ ولم يُنقشْ به اللَّوحُ، وأنَّ جلالَه يأبى أنْ يستقرَّ ذلك في أهلِ الصفا، فانجلتِ الحكمةُ في طَيِّ الخفا، أنّ الأمرَ من أوَّلهِ قد انتفى.
وإنَّما أرادَ اللّٰهُ في باطنِ أمرِه أنْ يرى مِنْ خليلِه تسليمًا لا تردُّدَ فيه، واستسلامًا لا ارتيابَ معه؛ فكان المقصودُ تصديقَ الرؤيا قلبًا لا تنفيذَها قالبًا؛ لذا جاءَ نداءُ الخليلِ لخليلِه في لحظةِ تحقيقِ المرادِ، وتسليمِ القلوبِ لا الرقابِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)} [الصافات]
- ثالثًا:
إذا كنَّا نحن الذين لا نملكُ قَدْرَ نَقِيرٍ مِنْ علمِ الأنبياءِ، قد تنبَّهْنا إلى ما تنبَّهْنا إليه، فما بالُنا بخليلِ اللّٰهِ وأبي الأنبياءِ وإمامِ الموحِّدينَ و(الأمَّةِ)، هل يمكنُ أنْ يغفلَ عَنْ أنَّ الذي استعظمَ مِنْ قبلُ قَتْلَ الأخِ لأخِيه بغيرِ نفسٍ ولا فسادٍ حتَّى جعلَه: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا (٣٢)} [المائدة]، لا يمكنُ أنْ تتعلَّقَ إرادتُه الفعليَّةُ بذبحِ الأبِ لابنِه بلا جُرْمٍ ولا جريرةٍ؟!
والجوابُ:
هو مِنْ أهلِ الظاهرِ مَنْ لم يتنبَّهْ إلى أنَّ ملكوتَ الذبحِ وسِرَّهُ الموحى به لم يكنْ ذبحًا للرقابِ، بل هو ذبحٌ للنفسِ والهوى لانفكاكِها عَنْ أَسْرِ التعلُّقِ بغيرِ ربِّ الأربابِ؛ فإبراهيمُ لم يُؤمرْ باطنًا بذبحِ عنقِ إسماعيلَ الابنِ، بل بذبحِ تعلُّقِه به.
وإنْ شئت قلت:
إنَّ اللّٰهَ (جلَّتْ قدرتُه وتقدَّستْ إرادتُه) ما أرادَ مِنْ خليلِه الذبحَ فداءَه، بل أرادَ أنْ يَذبَحَ في قلبِه كلَّ تعلُّقٍ سواءَه، وأنْ تُسلَّمَ النفسُ طائعةً لما شاءَه، فتَنْسَلِخَ عَنْ حظوظِها، وتفِرَّ إلى محبوبِها، حتَّى لا يبقى فيها لغيرِه مِنَ اللهفةِ مأوى، ولا للهوى مأتى... فلمَّا أشرقتْ شمسُ التسليمِ مِنْ أفقِ فؤادِه، وأُرِيقَ مِنْ محرابِه كلُّ مَنْ زاحمَ الأحدَ في وِدادِه... اتَّخَذَهُ الرحمنُ خليلًا، وجعلَه للعارفينَ هاديًا ودليلًا. (واللّٰهُ العالمُ بحقائقِ الأمورِ).
➖➖➖➖➖➖➖➖
د. السيد حسين علي الحسيني
واتساب: 009613804079

|