﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 النداء الإلهي (وجوب الصوم) 

القسم : محاضرات رمضانية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 29   ||   القرّاء : 15498

          يقبل علينا شهر رمضان في كل عام، فنحل عليه ضيوفا بنداء رب الوجود سبحانه وتعالى، وكما تعلمون إن من آداب الضيافة حسنُ الدعوة بحيث تكون لائقة بالداعي وعلى قدره. فبأي لسان دعانا الحق سبحانه إلى ضيافته؟

قال تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...< البقرة 183.

لو تأملنا في هذا الخطاب الإلهي، للمسنا فيه بعضا من الرحمة الإلهية، والأدب الرباني؛ فإنه تعالى يبلغنا حكم وجوب الصيام علينا، مواسينا بأن هذا الحكم لم يتوجه إلينا فحسب، وإنما هو حكم التزم به كل من سبقنا من أهل الشرائع السابقة > كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ<. ثم بيّن لنا ما تقتضيه الحكمة الإلهية من أن أحكامه تعالى ليست أحكاما عبثية لا مصلحة فيها، وإنما أحكامه تعالى تابعة لمصالح وأغراض يعود نفعها علينا لا عليه تعالى؛ لأنه (عز وجل) كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم؛ لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه". وهذه المصلحة من الصيام يوجزها الحق سبحانه بالتقوى >لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ<. وقوله تعالى: >لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ<، يعني رجاء أن تتقوا الله بصيامكم، وهذا الرجاء يتوقع حصوله إذا فهم المكلَّف معنى الصيام، وعاشه بقلبه وأخلاقه، ولم يتعامل معه على أنه أيام للتجويع والتعطيش، على حد تعبير المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".

والتقوى في اللغة من الوقاية، وعند أهل الحقيقة: "تجنب عقوبة الله بطاعته". وهي نوعان: تقوى في الطاعات، وتقوى في المعاصي.

- أما التقوى في الطاعات، فهي تعني الإخلاص فيها بعيدا عن كل مراءات، وهذا ما نجده في الصوم؛ لأن الناس في هذه العبادة يصعب عليهم أن يراؤوا بخلاف الصلاة والتسبيح مثلا، فإن المصلي أو المسبح قد تكون صلاته وتسبيحه لأجل التظاهر بالإيمان أمام الناس، بخلاف الصوم؛ فإن الصائم قادر على أن يأكل من دون أن يراه الناس، ولكنه لا يفعل ذلك في شهر رمضان لشعوره بمراقبة الله في كل مكان وزمان، فيكون هذا الشهر الفضيل سببا مباشرا في امتلاكه ملكة التقوى في الطاعة، أي الإخلاص لله في العبادة من جهة، وتقوية الشعور بالرقابة الإلهية من جهة أخرى. ومن هنا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "فرض الله الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق".

روي عن الحسين بن علي (عليهما السلام): أنه جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ ولا اصبر عن المعصية، فعظني بموعظة، فقال B: "افعل خمسة أشياء واذنب ما شئت: فأول ذلك: لا تأكل رزق الله، واذنب ما شئت. والثاني: اخرج من ولاية الله، واذنب ما شئت. والثالث: اطلب موضعًا لا يراك الله، واذنب ما شئت. والرابع: إذا جاء مَلَك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك، واذنب ما شئت. والخامس: إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار، واذنب ما شئت".

- أما التقوى في المعاصي التي يحققها الصوم، فنقدم لبيانها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ حيث قال: "إن الله تبارك وتعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها...حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهاتٌ بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم، فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله (عز وجل) فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها". إذًا ترك ما يشك في حرمته يعينك على ترك ما تيقنت من حرمته، بينما في شهر رمضان لا يترك الصائم ما يشك في حرمته، بل يحرم نفسه ويمنعها عن المباحات الحلال خلال ثلاثين يوما، فإذا اعتاد على ترك ما هو مباح، سهل عليه ترك المحرمات بل المكروهات.

نرجع إلى النداء الإلهي، فبعد أن عرّفنا الحق سبحانه وجوب الصيام علينا كما أوجبه على من قبلَنا، وبيَّنا لنا فائدة هذه العبادة من تحصيل التقوى في الطاعات والمعاصي على ما بيّنا. يكمل الحق سبحانه قائلا: >أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...< البقرة 184. ما ألطف هذا الإله، يردف حكم وجوب الصيام كالمعتذر بذكر أنه كان واجبا على الأمم الخالية من جهة، وأن أيامه قليلة ومعدودة، وهذا مصداق لقول الصادق (عليه السلام): "لَذّة النداء، أزال تعب العبادة والعناء". سبحان الله العظيم! نحن لا نستخدم هذا الأسلوب في خطابنا لبعضنا إلا حينما تكون لنا حاجةٌ، فنطيب كلامنا، ونلين جانبنا، مع بسمة تشجع المراد منه أن يحقق رغبتنا، ولكن ما حاجة الله إلى صيامنا ليكلمنا برفق راجيا أن نحقق التقوى في هذه العبادة العظيمة؟!

تستحضرني حادثة الإمام زين العابدين (عليه السلام) مع صاحبة طاووس، حيث روى أنه سمع الإمام يدعو ربه ويقول: "سبحانك تعصى كأنك لا ترى، وتحلم كأنك لم تعصَ، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع، كأن بك الحاجةَ إليهم! وأنت يا سيدي الغني عنهم. ثم خر إلى الأرض ساجدا، فدنوت منه، وشلت رأسه ووضعته على ركبتي، وبكيت حتى جرت دموعي على خده، فاستوى جالسا وقال: من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟! فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون، أبوك الحسين بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله ؟ قال : والتفت إلي وقال : هيهات هيهات يا طاووس! دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا، أما سمعت قوله تعالى: > فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ<، والله لا ينفعك غدا إلا تقدِمةٌ تقدمها من عمل صالح".

          وبهذا نختم الكلام عن النداء الإلهي في شهر رمضان المبارك، وهو نداء رب العزة تعالى شأنه لنا بصيام هذا الشهر، فنجيبه بـ(لبيك اللهم لبيك). اللهم نسألك يا سميع يا عليم أن لا تخرجنا من هذه الدنيا إلا وأنت راض عنا، اللهم نحن عبادك المبتلون الحائرون التائهون، فاسكنا بجوار ألطافك في شهرك هذا، وتقبل أعمالنا فيه، واشملنا برحمتك يوم الفزع الأكبر بـ> يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ< البقرة 185. إنك سميع مجيب دعوة الداعي إذا دعاك.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 عدة الحامل

 الزكاة

 الإجارة

 الحكيم الودود

 نزاهة آباء النبي وأمهاته عن الدناءة والكفر

 السيرة الذاتية لسماحة الدكتور السيد حسين علي الحسيني

 وجوب الإمامة

 صيغة الطلاق والشهود والشروط

 دعاء العهد

 آداب التّشييع

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net