﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 شبهات حول خلق الإنسان من القرآن الكريم 

القسم : شبهات عقائدية   ||   التاريخ : 2011 / 05 / 03   ||   القرّاء : 16777

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين حمدا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله المعصومين، الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وبعد..

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وردتني ثلاثة أسئلة من أحد الإخوة على (الفايس بوك)، عبارة عن ثلاث شبهات طرحها عليه أستاذه في الجامعة، فكان نص سؤاله التالي:

" السلام عليكم سيدنا. أستاذنا في الجامعة يعرض علينا بعض الإشكاليات، فأرجو من حضرتك الرد.

أوّلا: يقول: إن علم الطب يقول: إن اللحم يتكوّن في الجنين أوّلا، ومن ثَمَّ العظام، ولكن القرآن يقول: >وكسونا العظام لحما<، فهو يعرض لنا الاختلاف بين العلم والقرآن.

ثانيا: يقول: إن الفحوص الطبية الحديثة تثبت أنه لا يوجد في الإنسان تراب أو طين، ولكن القرآن يعرض غير هذا، على اعتبار أن آدم من تراب.

ثالثا: يقول: إن الآية في سورة المؤمنون، فيها تحريف وخطأ باعتبار أنها تقول: >تبارك الله أحسن الخالقين<، ولكن لا يوجد سوى خالق واحد.

وفقك الله لكل خير يا مولانا وربنا يبارك فيك".

 

فأجبناه:

* جواب السؤال الأوّل:  

قال تعالى: >ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ< سورة المؤمنون، الآية 14. تنص هذه الآية على أن بداية الخلق الجنيني في الرحم من حويمن الرجل؛أي حيوانه المنوي spermatozoïde، من ثم يتحول الحويمن إثر تلقيحه بويضة المرأة ovule إلى علقة، وهي القطعة من الدم الجامد Un caillot de sang، من ثم تتحول العلقة إلى مضغة، وهي لحم بمقدار ما يمضغ في الفم Une masse de chair، من ثم يخلق العظم، من ثم يكسو الله العظام لحما، فخلق اللحم بداية سبق خلق العظام.

 

* جواب السؤال الثاني:

نفند السؤال الثاني في جهات ثلاث:

الجهة أوّلا: إن كان المراد أن القرآن نص على أن الإنسان بعد أبينا آدم (عليه السلام) مخلوق من الطين، فالرد عليه بقوله تعالى: >الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ< سورة السجدة، الآية 7-8. تدل هاتان الآيتان على أن خلق آدم (عليه السلام) كان من الطين، ولكن من بعد ذلك صار التناسل بحويمن الرجل.

الجهة الثانية: إن كان المراد –كما هو ظاهر السؤال- أنه إن كان الإنسان من طين، فلمَ لا نجد فيه شيئا من الطين؟ فجوابه: إن القائل بهذه المقولة لا يعرف شيئا عن جسم الإنسان، لأن تحليل جسم إنسان زنته 70 كيلو غرام يخرج بالنتائج التالية:

- قدر من الدهن يكفي لصنع سبع قطع صابون.

- قدر من الكربون يكفي لصنع سبعة أقلام رصاص .

- قدر من الفوسفور يكفي لصنع رؤوس مائة و عشرين عود ثقاب.

- قدر من ملح الماغنزيوم يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات.

- قدر من الحديد يكفي لعمل مسمار متوسط الحجم.

- قدر من الجير يكفي لتبييض حجرة صغيرة.

- قدر من الكبريت يطهر جلد كلب واحد من البراغيث التي تسكن شعره.

- قدر من الماء يملأ برميلاً سعته عشرة جالونات.

و هذه المكونات هي العناصر التي يتركب منها التراب.

          الجهة الثالثة: إن كان المراد أنه إن كان الإنسان من الطين، فلماذا لا يذوب حينما يوضع بالماء شأنه شأن الطين؟ فجوابه: إن الإنسان وإن كان بدوًا قد خُلِق من طين، ولكنه بعد العديد من العمليات التفاعلية، تتغير خصائص مواده الأولية، تماما كما يحصل مع الزجاج، فإنه رغم كونه مركبا ترابيا معالجا بالنار، إلا أننا لا نجد إبريق الزجاج يسيح بصب الماء فيه.

          وعلى قاعدة "الشيء بالشيء يذكر" أنقل لكم قصة أبو وهب بهلول بن عمر الصيرفي الكوفي صاحب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، الذي كان من فقهاء وعلماء الأمة، إلا أنه ادعى الجنون زمن الرشيد العباسي بأمر من إمامنا الكاظم (عليه السلام) تقية للحفاظ على حياته، وخدمة المذهب من وراء ذلك. وقد جرت له حادثة مع خطيب بغداد العباسي الذي صعد المنبر ليرد على مقولات لإمامنا الصادق (عليه السلام)، فقال:

- الصادق يقول: إن الله لا يُرى، وأنا أقول: إنه يُرى؛ لأنه موجود، وكل موجود يُرى.

- الصادق يقول: إن إبليس في النار، وأنا أقول: إذا كان إبليس من نار فكيف تحرقه النار؟!

- الصادق يقول: إن الخير من الله، والشر من الإنسان، وأنا أقول: إن الخير والشر من الله.

- الصادق يقول: إن الإنسان مخيّر، وأنا أقول: إنه مسيّر ومجبور في أعماله.

وبينما هو كذلك، فإذا بهلول (رضوان الله تعالى عليه) يلتقط طينة يابسة صلبة، ويرمي بها الخطيب، فأصابت جبهته حتى سالت الدماء منه غزيرة، فأخذ يصرخ ويولول، ويتوعد بعقاب بهلول.

تقدم بهلول منه وقال له: ما بك تصيح وتتألم؟! أين الألم ؟!

- قال الخطيب: هنا في رأسي!

- قال بهلول: أنت تكذب، فأنا لا أرى الألم.

- قال الخطيب: أيها الغبي! كيف ترى الألم؟! إنه موجود ولا تراه.

- قال البهلول: وكيف تقول يا خطيب بغداد إن كل شيء موجود يجب أن نراه، وإن الله موجود ويُرى؟!

ثم كيف تتهمني بأنني ضربتك؟! أنا لم أضربك، وإنما الله هو الذي ضربك لأنك قلت: إن الانسان مسيّر وليس مخيّرا. فأنا على حد قولك مسيّر بأمر الله تعالى، ولا يجوز أن أجازى على عمل هو من أمر الله تعالى.

ثم إنك تقول: إن الخير والشر من الله، فهذا الشر الذي أصابك هو من الله على حد زعمك، وليس مني.

ثم إنك تقول: إن إبليس من نار، والنار لا تحرق إبليس، الذي هو من جنسها. فكيف تدعي أن الطين جرحك، وأنت إنسان من طين، فكيف يجرحك الطين؟!

 

* جواب السؤال الثالث:

          نفند السؤال الثالث من جهات ثلاث:

          الجهة الأولى: إن كان سؤاله سؤال مؤمن بالقرآن الكريم، فكيف يجتمع اعتقاده بالتحريف في هذه الآية، مع اعتقاده بقوله تعالى: > إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ< سورة الحجر، الآية 9. وقوله تعالى: > لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ< سورة فصِّلت، الآية 42. فإن المتنافيات غيرُ مجتمعات؛ حيث يعتقد بآيات تنفي التحريفات، ثم يدعي وقوع التحريف في أخريات، إن هذا لشيءٌ عُجاب! خصوصا وأن التحريف المزعوم من الأمور الاعتقادية التي لا تحتمل النسخ، الذي يقع في الشرعيات فقط.

          الجهة الثانية: وإن كان سؤاله سؤال ناكر للقرآن، فلا معنى لقوله بتحريفه، وهو ينكر أصل نزوله من لدن إله يسمع الهمسات، وقد سمع قوله حينما قذف القرآن بالشبهات الواهنات.

          الجهة الثالثة: وإن كان سؤاله سؤال ناكر للقرآن، سقط في الزلات، فعبر بالتحريف، بدل الإشكالات، فليستمع لهذه الإجابات التي تخرس قطا الليالي الحالكات:

- أوّلا: إن العارف باللغة العربية لا يخفى عليه أن صيغة التفضيل لا تستلزم وجود طرف آخر دائما، فلا ضير من أن يقول عالم بين جهلاء: "أنا أعلمكم" رغم كونه العالم الوحيد بينهم. ومن هنا لم ير اللغويون بأسا في أن يكون الله تعالى الخالق الأوحد، ويقول عن ذاته المقدسة أنه أحسن الخالقين.

- ثانيا: إن الخلق مفهوم مشكك، أي ذو مراتب وجودية متفاوتة، كالبياض مثلا، فإنك ترى بياضا أنصع من بياض، وهكذا، وليس البياض في الخارج على درجة وجودية واحدة، من هنا كان البياض مفهوما مشكِّكا لا متواطِئا متَّفِقا.

وكذلك هو الخلق، فإن خلق الله تعالى للكائنات يعني تصوريها بعد خلق جزيئاتها، وتوجيهها في مراحل نموِّها، ونفخ الروح فيها، واختيار الظروف الزمانية والمكانية وغيرها من الأمور المؤثرة في عملية الخلق، من هنا كان خلقه تعالى كاملا لا نقص فيه ولا اعوجاج.

بينما لا يخفى أن الإنسان في عملية التوالد له مدخلية في كونه يختار وقت جماع زوجته، مما يؤثر على طبيعة الخلق، كما يختار طبيعة الغذاء الذي يؤثر بدوره على طبيعة النطفة، الذي يؤثر على بنية المولود. من ثم تأتي فترة الحمل التي تتأثر بطعام المرأة، وحالاتها النفسية... كل هذه الأمور وغيرها تجعل من الرجل والمرأة خالقَين على المستوى الإنساني.

وبتعبير فلسفي، إن الله كان وما يزال العلة التامة الموجِدة لجميع الكائنات؛ أي العلة التي تُخْرِجُ كل ما هو ممكن الوجود إلى موجود بالفعل، إلا أن الرجل والمرأة لما كانا يشكلان العلة المادية؛ أي التي تهيئ الأجزاء المركبة للمعلول، وفي المقام هما الحويمن والبيوضة، والعلة المعدَّة لخلق الجنين؛ أي التي تقرِّب أجزاء العلة إلى معلولها،- لما كان الرجل والمرأة كذلك نسب تعالى لهما الخلق بما يتناسب معهما، فكانا خالقَين بهذا المعنى وهذا المستوى.

ولما كان لهما اختيار تلك الظروف والعوامل المؤثرة، كان خلقهما -أي دورهم في عملية الخلق بما هما علة مادية ومعدّة- أقل إتقانا من خلق الله حينما يتولى تعالى اختيار كل تلك العلل والمؤثرات في عملية إخراج ممكن الوجود من حيِّز العدم إلى حيِّز الوجود. فسبحانه تعالى أحسن الخالقين.

ثم بعيدا عن التحليلات، وتوجيه الشواهد والبيِّنات، يكفينا تصريح كتاب الله العزيز بخلق عيسى (عليه السلام) بإذن الله تعالى، قال (عز من قائل): > أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ< سورة آل عمران، الآية 49. نسب الخلق إلى عبده وابن أمته (عليهما السلام) بلا حزازة، بعدما أوقف حركة الخلق هذه على إذنه (جل وعلا)، إشارة إلى ما قدمناه من كونه تعالى علة العلل، في قبال العلة المادية التي هيئت له (عليه السلام)، والعلة المعدّة التي أداّها بتقريب العلة المؤثرة إلى معلولها.

ثم انقل لهذا الدكتور عني أبياتي التي كتبتها عقب انتهائي من الإجابة على إشكالاته:

قُلْ للمُشكِّك عارٌ أيُّما عارِ        نقضُ الكتابِ فمٌ بالجهل ثرثارِ

أراك أحكمَ قولاً أن تلوذ به      تطوي السكوت بلا حُمْقٍ وأوزارِ

لا تنقضنَّ كلامَ الله عن شُبَهٍ      بالوهم قد غُمِسَت بزورِ أفكارِ

من أبدعَ الدنيا لا يُخطِئُ الكَلِمَ   هل زُحْزِحَت شمسٌ عن عُشْرِ مِعْشارِ

فافهمْ بلا عِنْدٍ منظومةَ الكُنِّ      تلق الوجود بدا من كِلْمة الباري

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، والحمد لله الذي جعلنا من المدافعين عن الدين والقرآن الكريم، وفوق كل ذي علم عليم.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 أنواع الطلاق

 الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام)

 الغضب

 زيارة الإمام محمد بن علي الجواد التقي (عليهما السلام) يوم الأربعاء

 بين المسيح والحسين (عليهما السلام)

 زيارة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) المعروفة بزيارة الناحية المقدسة

 التوبة (2)

 دعاء الافتتاح

 نذر الزوجة

 الدم والجرح

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net